منوعات

الذكاء الاصطناعي يتنبأ بضعف المناعة قبل ظهور المرض

العالم ينتقل من عصر الطب التفاعلي إلى عصر الطب الاستباقي

هل يمكن التنبؤ بالمرض قبل أن يبدأ؟ بينما لا يزال العالم يركض خلف الأمراض بعد وقوعها، جاءت جامعة «ستانفورد» هذا الشهر لتطرح سؤالاً قد يغيّر قواعد اللعبة: لماذا لا نرصد الأشخاص الأكثر عُرضة للمرض… قبل أن يمرضوا؟

بصمات مناعية خفية

هذا ليس طرحاً فلسفياً، بل جوهر دراسة علمية رائدة نُشرت بتاريخ 17 يونيو (حزيران) 2025 في مجلة Immunity (المناعة)، إحدى أبرز الدوريات العالمية المتخصصة في علوم الجهاز المناعي.

واستعانت الدراسة، التي أجراها فريق بحثي بقيادة البروفسور هونغ وانغ (Hong Wang) في مركز «بيو إكس» للأبحاث المناعية في جامعة «ستانفورد»، بتقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل ملايين الخلايا المناعية من متطوعين أصحاء ظاهرياً، وكشفت عن «بصمات مناعية خفية» قد تشير إلى استعداد جسدي غير مرئي لظهور أمراض مستقبلية، حتى قبل أي علامة سريرية أو شكوى صحية.

ولا تعتمد هذه التكنولوجيا الجديدة على تشخيص المرض، بل على فهم دقيق لـ«الخلل الصامت» في جهاز المناعة – أي تلك الاضطرابات الكامنة التي لا يشعر بها الإنسان لكنها تُمهّد لأمراض مثل السكري، والتصلّب المتعدد، أو حتى السرطان.

ما الذي فعله العلماء؟ وكيف توصّلوا إلى هذا الاكتشاف؟ استند فريق جامعة «ستانفورد» إلى كنز معرفي ثمين: البيانات الجينية والصحية المُجمّعة على مدى عقود من خلال واحدة من أطول وأشهر الدراسات الطبية في التاريخ، وهي «دراسة فرامنغهام للقلب» (Framingham Heart Study).

وتابعت هذه الدراسة، التي انطلقت في خمسينات القرن الماضي، الحالة الصحية لآلاف الأشخاص من سكان مدينة فرامنغهام الأميركية، جيلاً بعد جيل، لتصبح لاحقاً مرجعاً عالمياً في فهم أمراض القلب والتمثيل الغذائي والمناعة.

الكشف عن 42 جيناً

ومن خلال تحليل عينات دم وأرشيف ضخم من بيانات التعبير الجيني، استعان الباحثون بأدوات الذكاء الاصطناعي للتنقيب في الجينات، وتمكنوا من تحديد «بصمة مناعية» دقيقة تتكوّن من 42 جيناً، ظهرت لدى بعض الأفراد الذين يبدون أصحاء ظاهرياً.

لكن هذه البصمة كانت تحمل في طياتها مؤشرات خفية على اضطراب مناعي يجعلهـم أكثر عُرضة للمعاناة من مضاعفات شديدة عند التعرض لأي عدوى فيروسية أو مرض التهابي، حتى قبل ظهور أي أعراض تُذكر.

لماذا يُعد هذا الاكتشاف قفزة طبية غير مسبوقة؟ لأول مرة في تاريخ الطب، أصبح بالإمكان التنبؤ، بشكل شخصي ودقيق، بمن قد يكون عرضة لاستجابة مناعية مفرطة أو ضارّة، حتى قبل أن يُصاب بأي عدوى أو تظهر عليه أي أعراض.

وهذا التحوّل النوعي يعني أن الطب الحديث لم يعد فقط يتعامل مع المرض بعد وقوعه، بل بدأ يدخل عصر الطب الاستباقي المناعي.

التقنية الجديدة تُتيح للأطباء رصد الفئات الأكثر هشاشة مناعياً، التي تشمل على وجه الخصوص: كبار السن، ومرضى السكري، والمصابين بالسمنة، والمدخنين، ومرضى القلب المزمن.

وبدل الانتظار حتى تتفاقم الحالة، يمكن الآن بناء خطط طبية استباقية لتلك الفئات، تتضمن وقاية مخصّصة، أو علاجاً مبكراً، أو أولوية في توزيع اللقاحات والرعاية.

إنه طب المستقبل… حيث لا يُنتظر المرض، بل يُرصد قبل أن يُولد.

الذكاء الاصطناعي طبيب خفي

• تمشيط البيانات. في قلب هذا الإنجاز العلمي تقف خوارزميات الذكاء الاصطناعي، تعمل بصمت ودقة، تمشّط البيانات الجينية المعقدة، وتفكك شيفراتها المخفية.

هذه التقنية المتقدمة في التعلم الآلي لا تكتفي بتحليل الأرقام، بل تحاكي آلاف السيناريوهات البيولوجية، وتكشف من خلالها مؤشرات دقيقة على ضعف الاستجابة المناعية المستقبلية، إشارات دقيقة لا يمكن للعين البشرية، ولا حتى لأمهر الأطباء، أن تلتقطها في الوقت المناسب.

وعلق الدكتور فاريان مينون، أستاذ المناعة الجزيئية في جامعة «ستانفورد»، والباحث الرئيس في الدراسة، قائلاً: «نحن لا نتحدث عن تنبؤ نظري، بل عن أداة سريرية حقيقية، قادرة على إنقاذ الأرواح من خلال تدخلات مخصّصة قبل أن يفوت الأوان. لقد منحنا الذكاء الاصطناعي القدرة على رؤية الخلل قبل أن يصبح مرضاً». وهذا ليس علماً مستقبلياً خيالياً، بل هو واقع بدأ يتشكّل داخل المختبرات… وقد يكون خلال سنوات قليلة جزءاً من الفحوصات الروتينية التي تسبق المرض لا التي تلحق به.

• ما الفوائد الحقيقية لهذا الإنجاز؟ إن ما كشفته جامعة «ستانفورد» لا يُعد مجرّد اكتشاف علمي، بل إنه منعطف في تاريخ الطب الحديث، يحمل في طيّاته وعوداً كبرى:

– ثورة في الطب الوقائي، إذ لم نعد مضطرين لانتظار ظهور الأعراض لنتحرّك؛ يمكننا الآن التدخّل قبل المرض، في مراحله الخفية.

– رعاية صحية مخصّصة، إذ ستحصل كل فئة، بل كل فرد، على خطة وقاية وتغذية ونمط حياة يتناسب مع بصمته المناعية الفريدة.

– خفض التكاليف الطبية، لأن الوقاية الذكية تعني تقليل الحاجة للعلاج المكلف في المراحل المتأخرة.

– إدارة فعّالة للأوبئة، ففي حال ظهور أوبئة جديدة مثل «كوفيد – 19» يمكن تحديد الفئات الأكثر هشاشة، وإعطاؤهم الأولوية في اللقاحات والرعاية.

– دعم الصحة النفسية، فالمعرفة الدقيقة بـ«الموقع المناعي» للفرد تُقلل من حالة القلق المجتمعي بشأن المستقبل الصحي.

• رعاية صحية «استباقية». وهذا الابتكار لا يُقصي دور الطبيب، بل يُعزّزه؛ ويجعل الطبيب أكثر قدرة على الاستماع العميق، والتحليل الدقيق، ووضع خطط مبنية على بيانات لا على التخمين.

نحن ننتقل من عصر الطب التفاعلي إلى عصر الطب الاستباقي، ومن العلاج الجماعي إلى الرعاية الشخصية الموجّهة. وفي عالم تتسارع فيه الأمراض كما تتسارع الخوارزميات، أصبح من الواضح أن المستقبل لا ينتظر أحداً… لكن الذكاء الاصطناعي قد يُنقذ من يستعدّ له.

  • الرياض

Loading

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Show Buttons
Hide Buttons
Translate »