«السلطة والعمارة في مصر»… صراع الهوية الثقافية

عن دار «الشروق» بالقاهرة، صدر كتاب «السلطة والعمارة في مصر» للباحث والمؤرخ د. خالد عزب الذي يغوص عميقاً عبر طبقات التاريخ في موضوع شيق، وبأسلوب يجمع بين السلاسة والتدقيق، مستعرضاً تجليات العلاقة بين مختلف حكام مصر منذ الفتح الإسلامي للبلاد وبين القصور والقلاع التي كانت مقراً للحكم من ناحية أخرى. ومن خلال رصد التتابع الزمني لتطور هذه النوعية من المنشآت المصرية، منذ عمرو بن العاص إلى عصور أسرة محمد علي، يخلص المؤلف إلى أن تلك العمارة لم تكن مباني وقصوراً فقط، وإنما كانت تعبيراً عن «صراع هوية واشتباك فكري» بين ثقافات مختلفة.
ويشير عزب، عبر الصور والوثائق المختلفة، إلى تأثير الخلافة العباسية على الشخصية المعمارية لمصر، حيث ظهرت في بعض المنشآت، لكن سرعان ما تحرر المصريون من تلك «الهيمنة الثقافية» وحاولوا الاستقلال بشخصيتهم الحضارية، إلى أن صار لهم طراز معماري فريد ينطوي على خصوصية ثقافية، وهو ما بدأ يظهر في العصر المملوكي من خلال المآذن والمساجد والمدارس والقصور، حتى بلغ ذروتَه في «مسجد السلطان حسن».
لكن شخصية مصر المعمارية عادت لتقع في هوّة التأثر بعوامل خارجية وافدة تمثلت هذه المرة في الغزو العثماني للبلاد، وهو ما تجلى على سبيل المثال في «قصر الجوهرة» و«قصر شبرا»، لافتاً إلى أن «قصر الاتحادية» استطاع أن يمزج بين الكتابات العربية على أسواره وطرز الواجهات المستوحَاة من شموخ العمارة المملوكية، وهو ما انعكس على هيبة القصر المعمارية المعبِّرة عن عظمة وقوة الدولة، ليرسخ في ذهن عموم المصريين حتى الآن بوصفه «القصر الرئاسي لمصر». تأسس هذا القصر في الفترة بين عامي 1908 و1910، على يد المهندس البلجيكي إرنست جسبار، وتم افتتاحه رسمياً فندقاً في عام 1910، ليتحول بعد ثورة 23 يوليو (تموز) 1952، إلى قصر رئاسي.
ويؤكد د. خالد عزب أن الهوية المعمارية للوطن لا تتمثل فقط في مقومات مقرات الحكم وطبيعة منشآت النخبة الحاكمة، بل تتجسد أيضاً في الطرز المعمارية للشعب ككل، فالعمارة المملوكية تمايزت عن غيرها حتى صارت معبّرةً عن مصر وبلاد الشام في العصر المملوكي. وعندما طغت الطرز المعمارية الأوروبية خلال القرن التاسع عشر، ظل هنا توجه وطني في مصر يعبّر بصورة أو بأخرى عن «روح الشرق»، نراه في إدخال الخط العربي حيناً في واجهات العمائر أو الزخارف الإسلامية، حتى إنه لم يخلُ قصر من قصور الحكم في عصر أسرة محمد علي من قاعة على الطراز العربي، غالباً ما تُستخدم على أنها «قاعة للعرش»، على غرار قاعة العرش في قصر عابدين.
يأتي كل ذلك في إطار السؤال المركزي الذي يطرحه عزب: «كيف تعكس العمارة تحولات السلطة؟ وكيف تعبّر عن توازنات القوى داخل المجتمع؟»، مؤكداً أن الإجابة لا يمكن أن تأتي مباشرةً، «إذ إن العمارة لا تُفرض من الأعلى فقط، بل تتشكل في سياق تاريخي واجتماعي وثقافي، يعكس التبدلات في علاقة السلطة بمكونات المجتمع، من علماء وبيروقراطية ونخب مثقفة، إلى عموم الناس».
ويردّ المؤلف على من يرون في تأمل دروس التاريخ نوعاً من الحنين المَرضيّ إلى الماضي، مؤكداً أن «الإصغاء لنداء الأزمنة الغابرة، خصوصاً الماضي الذي لم يعره أحدٌ أيَّ اهتمام، أمرٌ حتمي، فالتراث والتاريخ كلاهما مستودع لتجارب الأمم. ويرى أننا هنا كصياد اللؤلؤ الذي يغطس في أعماق البحر ليستخرج منه أثمن أنواع الأحجار الكريمة والمرجان ويحمله إلى وضح النهار، فهو لا يغطس في الماضي ليحييه من جديد كما كان، ولا ليحاول تجديد العصور البائدة».
وصدر لخالد عزب أكثر من 60 كتاباً، كما حصل كتابه «فقه العمران» على جائزة «أفضل كتاب» من «مؤسسة الفكر العربي» 2014، كما نالَ جائزة «الدولة للتفوق» عام 2016. وأسّس «بيت العمارة والعمران» في منطقة «القاهرة التاريخية»، كما عمل في مكتبة الإسكندرية من 2001 حتى 2019، حيث أطلق مشروع ومجلة «ذاكرة مصر» إلى جانب مشاريع بحثية أخرى.
- القاهرة: «الشرق الأوسط»