
خرجت من مقبرة «سار» الأثرية في البحرين مجموعة كبيرة من القطع الفخارية تشهد للتعددية الثقافية التي تميزت بها هذه الجزيرة يوم كانت حاضرة أساسية من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون. تتبع صناعة هذه اللقى في أغلب الأحيان أنماطاً تقليدية انتشرت في نواحٍ عدة من ساحل الخليج العربي، غير أننا نقع على قطع تتميّز بخصائص فريدة في تكوينها، منها كوب ذو قاعدة، على شكل كأس، زُيّن بشبكة من الزخارف الهندسية التجريدية، وإناء متدلٍّ زُيّن بشبكة تجمع بين العناصر الزخرفية المجرّدة والعناصر التصويرية الحيوانية.
تقع منطقة سار في المحافظة الشمالية، على بُعد نحو 10 كيلومترات غرب العاصمة المنامة، وتضم مستوطنة عمرت، وازدهرت في نحو عام 1900 قبل الميلاد. كشفت عنها بعثة مشتركة بحرينية – أردنية في الثمانينات، تبعتها بعثة محلية عملت مع فريق علمي من العاصمة البريطانية بين عامي 1990 و1999. تتميّز هذه المستوطنة بتخطيطها المعماري الهندسي الذي يشمل سائر مرافقها ووحداتها السكنية، وأشهر معالمها معبد يُعرف بـ«معبد سار»، وسلسلة من المدافن، تمتدّ على تلال مترابطة، وتتشابك فيما بينها على شكل أقواس دائرية، وتبدو في تشابكها أشبه بخلية نحل.
تُعرف هذه المقبرة المتشعّبة بـ«تلال مدافن سار»، وتُعد من أهم المدافن الأثرية التي تزخر بها جزيرة البحرين. جرت في هذه المدافن سلسلة من حملات المسح والتنقيب، أدّت إلى العثور على كم هائل من اللقى المتنوّعة، منها مجموعة كبيرة من القطع الفخارية، وصل القسم الأكبر منها على شكل قطع جزئية مكسورة، ووصلت قلة منها بشكل كامل. دأب أهل الاختصاص على تصنيف هذه القطع ورصد أنواعها وتفنيد أصولها، وتُظهر الدراسات المتلاحقة الخاصة بهذا الميدان تبايناً في الآراء حول تحديد مصدر وأصول عدد من هذه القطع، تميّزت بخصائص محدّدة في الصناعة وفي الصياغة، فبدت أشبه بقطع فريدة من نوعها.
من هذه القطع المميّزة، يبرز كوب ذو قاعدة طويلة، يتّخذ شكل كأس بطول 20 سنتيمتراً، وقُطْر جوفه الأعلى 12 سنتيمتراً، وطينته بلون أصفر عسليّ، مزيّنة بشبكة من الخطوط اعتمدت في صياغتها اللونين الأحمر والأسود، وفقاً للتقليد السائد في هذه الحقبة. حُدّد إطار جوف هذا الكوب بشريط دائري عريض أسود، وزُيّن القسم الأعلى منه بأربعة شرائط مماثلة، متباعدة ومتوازية. وطُليت المساحات التي تفصل بين هذه الشرائط باللون الأحمر الترابي. حُدد إطار الكوب الأسفل بشريط مماثل، وزُيّن الجزء الأسفل منه كذلك بأربعة شرائط، تفصل بينها مساحات ترابية حمراء. في المقابل، زُيّن وسط هذه الكأس بشبكة من التقاسيم الهندسية، اعتمدت سلسلة من الخطوط الرفيعة المرصوفة عمودياً، وسلسلة من الخطوط السوداء المرصوفة أفقياً، إضافةً إلى سلسلة ثالثة تمثّلت بخطوط عريضة جمعت بشكل متناسق بين الأسود والأحمر. صيغت قاعدة هذا الكوب على شكل قاعدة كأس، وزُيّن القسم الأسفل منها بحلية مشابهة، مع شبكة من الدوائر السوداء، حلّ في وسطها شريط عريض أحمر.
قيل إن هذه الكأس تتبع تقليداً فنياً «هارابياً»، وهارابا ناحية في باكستان، خرجت منها أوانٍ فخارية تميّزت بأسلوب خاص، شكّل طرازاً من الطرز التي عُرفت بها بلاد السند. وقيل إن هذه التقليد يتبع نسقاً شاع في غرب ناحية أخرى من باكستان، هي كُوَيْتَة. وقيل إن هذا النسق يماثل نسقاً عُرفت به مقاطعة باختريا التي تُعرف اليوم باسم بلخ. وقيل إن كأس مقبرة سار تماثل في بنيتها كؤوساً مصدرها موقع دشلي الأثري في تركمانستان. والأكيد أن هذه الكأس تبرز في الخلاصة كقطعة فنية تبدو فريدة من نوعها في محيطها.
إلى جانب هذه الكأس، تحضر قطعة أخرى تثير سجالاً مشابهاً، وتتمثّل في إناء على شكل قارورة، يحمل القسم الأعلى منها طرفان بارزان مثقوبان. ويشير هذا العنصر إلى أن هذه القارورة هي في الواقع إناء متدلٍّ، صُنع ليُعلّق كمبخرة. يبلغ طول هذا الإناء 23 سنتيمتراً، وقطر جوفه الأعلى 13.5 سنتيمتر، وهو مزيَّن بشبكة من الخطوط السوداء، كنايةً عن سلسلة من الخطوط الدائرية تحيط بعنق الإناء، تتبعها ثلاثة شرائط زُيّنت كُلٌّ منها بسلسلة من الخانات المتساوية الأضلاع. تشكّل هذه الشرائط المتوازية إطاراً لثلاث مساحات، أكبرها حجماً المساحة الوسطى. في المساحة العليا، كما في المساحة السفلى، تحضر مجموعة من الأيل صُوّرت في وضعية جانبية بأسلوب مختزل. في المساحة الوسطى، يحضر ثلاثة ثيران في وضعية مماثلة، وتتميز بسنام بعلوِّ كتفيها، ممّا يعني أنها من الفصيلة التي تُعرف اليوم عالمياً باسم الزابو، وعربياً بالبقر الدرباني.
قيل إن هذا الإناء يتبنى أسلوباً شاع في بلاد ما بين النهرين، في الحقبة التي تُعرف باسم «فترة أيسين ولارسا». وقيل إن العناصر التصويرية الخاصة بهذه القطعة تعود إلى العالم الإيراني القديم، كما أنها معروفة في أطراف العالم الهندي. يجمع هذا الإناء المتدلي بين أساليب متعدّدة في حلة جامعة خاصة، ويبدو أنه من ابتكارات إقليم دلمون، غير أنه يتميز بمادة طينية خاصة تفوق في جودتها منتجات هذا الإقليم. في الخلاصة، يصعب تحديد مصدر هذه التحفة بشكل دقيق، والأكيد أنها تبرز بوصفها واحدة من أجمل القطع الفخارية التي خرجت من مقبرة «سار».