بيتهوفن وطه حسين ونجيب محفوظ

ثلاثة رجال وددت لو بُعثوا أحياءً حتى أقبِّل يد كل منهم امتناناً: بيتهوفن وطه حسين ونجيب محفوظ. أما طه حسين فلأنه علمني استقلال الرأي والجرأة في الجهر به غير حافل بالمرجفين، كما علمني فضيلة التخلي عما يتشبث به الآخرون في غير سؤال ولا تفكير. حين أستمع لتسجيلات صوته الأجش العميق يحيل مفردات اللغة في نبراته وإيقاعاته إلى ما يشبه التلاوة أو الترتيل، يداخلني شعور بالاطمئنان والسلام. شعور باليقين المجرد. يقين بماذا، لا أدري، لكنها تلك الراحة التي تصاحب اليقين الراسخ بأي شيء، تأتيني خالصة من كل شك ومن كل يقين.
أما نجيب محفوظ، فهو الوحيد بين الثلاثة الذي كان يمكنني أن أقبِّل يده فعلاً، وقد التقيته أكثر من مرة، ولكن فاتني أن أفعل؛ ربما لأن الفكرة لم تداهمني في لحظة اللقاء حيث تركتُ بالبداهة يدي تلتقي باليد الممدودة بدلاً من أن أنحني عليها بالشفاه، إلا أنه لم يفتني أن أنحني على يده معنوياً مرات بلا حصر فيما انغمست في أعماله وكتبتُ عنها بالعربية والإنجليزية، ولهجت بحكمتها وفنيّتها في قاعات الدرس وصالات المؤتمرات. أدين لمحفوظ بفهم نفسي وفهم الناس والمجتمع. أدين له بتدريبي على الوصول إلى العمق الفلسفي الكامن وراء كل المواقف والسلوكيات. أدين له بتقنين النظرة المأساوية للحياة التي تتخلل كل أعماله وإن لم تؤدِّ قَطّ إلى رفض الحياة، وهي النظرة التي طالما فتنتني بتناقضها الصارخ مع الطبيعة الشخصية للرجل المفعمة بالتفاؤل والمرح والفكاهة في لقاءات
أما بيتهوفن ذلك الموسيقار الألماني المخضرم بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فكأنه لم يُولد من أكثر من مائتين وخمسين سنة إلا ليرعى روحي في كل مراحل حياتي منذ اكتشفته في أواخر عقدي الثاني. كتب مائة ساعة من الموسيقى في سنوات عمره الست والخمسين استمعت لكل دقيقة منها. أحسست بكل خلجة شعور فيها. لا أدري كم من مئات الساعات قضيتها أستمع لساعات موسيقاه المائة. كان معي في كل أزمة روحية مررت بها. كان ينتشلني من الوهاد. يعلمني معنى الارتفاع فوق الآلام. معنى أن يتحول الألم إلى طاقة وإبداع. كانت حياته نموذجاً في حد ذاتها. لكني أقتصر على موسيقاه التي صاحبتني في مراحل العمر من السيمفونيات والكونشرتوات الكبرى إلى موسيقى الحجرة التي تقتصر على عازف أو أكثر لا يتجاوزون أصابع اليد.
تعتريني حالة من الورع في حضرة بيتهوفن لا تفترق عن الورع الديني عند البعض. حين تنساب موسيقاه من الراديو في لحظة أكون فيها مضطراً للمغادرة لسبب أو آخر، فإني أتحرّج من إغلاق الراديو وقطع الموسيقى، كما يتحرج البعض من إغلاق مذياع تنساب منه آيات الذكر الحكيم. فأجدني أحياناً أجبر نفسي على البقاء في الغرفة حتى لحظة مناسبة للقطع، أو إن لم يكن ذلك ممكناً فإني أغادر أحياناً من دون إيقاف الراديو. أما عروض الأداءات الحية لموسيقى بيتهوفن فهي عندي من قبيل طقوس العبادة الجماعية. وقد حضرت قبل يومين مناسبة من هذا القبيل. مناسبة خاصة جداً ونادرة جداً. «ويك إند» مخصص لبيتهوفن في إحدى قاعات الموسيقى في لندن. كان الأداء يبدأ في الحادية عشرة والنصف صباحاً، وينتهي في الثامنة والنصف مساءً على مدى يومَي السبت والأحد. نحو تسع ساعات من موسيقاه تتخللها محاضرتان، كل منهما ساعة، تتناولان تطور موسيقى الحجرة لديه من مقتبل حياته إلى أواسطها ثم أواخرها. واحد وعشرون من مؤلفاته (نحو 10 بالمائة من مجمل إنتاجه) استمعت إليها في ذينك اليومين. اضطلع بالجهد البطولي ثلاثة عازفين: واحد للبيانو، وواحدة للكمان، وواحد للتشيلو. ثلاثة كهّان مكرّسون في محراب بيتهوفن. أما القاعة المعبد فكان الحجيج فيها يملأون نصف المقاعد فقط أو أقل في زمن الآلهة الزائفة هذا. ستبقى تلك النغمات التي شاهدتها تتولد حيّةً من الآلات أمامي على يد أولئك السحرة الثلاثة تتردد في أذنيَّ طويلاً. بيتهوفن يد رحمة تمتد عبر القرون لتظلل عالماً ما زال يتلظى في لهيب العذاب.