منوعات

لا شيء «اصطناعياً» في هذا الذكاء

لماذا يجب أن نُغيِّر الاسم... قبل أن يُعيد هذا الذكاء تعريفنا نحن؟

00

مشغل الصوت

في قاعة عريقة بالعاصمة الأميركية وأمام حشد من الخبراء خلال قمة «كسب سباق الذكاء الاصطناعي – Winning the AI Race»، وقف الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وأطلق عبارته بصراحته المعهودة:

«التهديد الحقيقي ليس الذكاء الاصطناعي… بل نحن حين نُسيء فهمه. لم يعد هناك شيء اصطناعي في الذكاء الاصطناعي… إنه يُصبح جزءاً منا».

كلمات بدت للوهلة الأولى مثيرة للجدل، لكنها سرعان ما تحوَّلت إلى صدمة فكرية أربكت القاعة، وأجبرت كثيرين على إعادة التفكير. لم تكن مجرد جملة عابرة، بل إشارة إلى سؤال أعمق يتجاوز التقنية والسياسة معاً:

هل حان الوقت أن نُعيد تسمية «الذكاء الاصطناعي»؟

منذ أن اقترح جون مكارثي عام 1956 في مؤتمر دارتموث مصطلح «Artificial Intelligence»، حمل الاسم بريقاً خاصّاً، يثير الخيال، ويستدعي السحر، لكنه في الوقت نفسه زرع بذرة التباس، فكلمة «اصطناعي» توحي غالباً بما هو مزيَّف أو مُصطنع، في حين نحن أمام منظومات تتعلَّم، وتُحلل، وتُبدع، بل تقترح حلولاً لمعضلات استعصى حلها على البشر أنفسهم.

فكيف يمكن أن نصف ذكاءً مثل هذا بأنه «غير حقيقي»… في الوقت الذي بدأ فيه يُغيّر حقيقية الإنسان ذاته؟

ابن سينا سبق تورنغ… حين عرّف الذكاء بلا دماغ

قبل ألف عام، كتب ابن سينا عبارة تكاد تُلخّص جوهر نقاشنا اليوم: «ليس العقل بمكانه… بل بفعله، ومن فعل العقل أن يُدرك، ويُحلل، ويستنبط، سواء كان في جسد أو لم يكن».

لم يكن يتحدّث عن دماغ بيولوجي أو آلة سيليكون، بل عن القدرة نفسها: الإدراك والتحليل والاستنباط.

ثم جاء ابن رشد ليضيف بُعداً آخر حين قال: «العقل الفعّال يُنير النفس كما تُنير الشمس البصر»، وكأنهما معاً سبقا بأشواط ذلك السؤال الذي شغل آلان تورنغ بعد قرون: هل يمكن للآلة أن تفكر؟

تأملوا… هؤلاء الفلاسفة لم يربطوا الذكاء بمكان محدد أو عضو بعينه، بل بالنتيجة والفعل، فهل يهم أين يسكن الذكاء -في دماغ، في آلة، أم في سحابة رقمية- ما دام قادراً على إنتاج الفهم والمعرفة؟

الذكاء الذي اكتشف ما عجز عنه العلماء نصف قرن

خذوا مثلاً ما حدث في عام 2020: لأكثر من نصف قرن، وقف علماء الأحياء عاجزين أمام واحدة من أعقد ألغاز الحياة: كيف يطوي البروتين نفسه داخل خلايانا ليأخذ شكله النهائي؟ هذه العملية، المعروفة بـ«طيّ البروتين» (Protein Folding)، بدت كأنها أحجية بلا مفتاح.

تخيّل أن أمامك خيطاً رفيعاً طوله متر، تُلقي به في الفراغ، ويُفترض أن تعرف -دون أن تراه- كيف سيلتف في لحظات ليكوِّن شكله ثلاثي الأبعاد الدقيق، وهذا هو اللغز الذي حيّر العلماء لعقود.

ثم جاء الحدث المفصلي؛ خوارزمية من شركة «DeepMind» البريطانية، حملت اسم «AlphaFold» (ألفا فولد)، قلبت الطاولة. ففي أيام معدودة، قدَّمت تنبؤات دقيقة بشكل مذهل عن البنية ثلاثية الأبعاد لآلاف البروتينات، وهو ما كان يستغرق من العلماء سنوات من التجارب المكلفة والمعقدة.

الأدهى أن الذكاء هنا لم يكتفِ بتقليد خطوات الباحثين، بل ابتكر أسلوبه الخاص في «الفهم»، مُنتجاً خرائط ثلاثية الأبعاد تُظهر البروتينات كما لو كانت مجسمات كريستال بلورية نابضة بالحياة.

وبهذه القفزة، فُتحت أبواب جديدة لعلاجات طال انتظارها؛ من الألزهايمر إلى السرطان، ومن مقاومة البكتيريا للمضادات إلى ابتكار أدوية شخصية لكل مريض. لقد تحوَّل «اللغز المستحيل» إلى «أطلس حياة» بفضل خوارزمية.

شهادة من مقاعد العلم

في مؤتمر سردينيا الدولي، كنت أُلقي محاضرتي حول مستقبل الذكاء الاصطناعي في طب الأسنان، حين وقفت البروفسورة البريطانية إليزابيث وايتفورد، وألقت جملة بدت كأنها تُعيد تعريف النقاش كله:

«لا شيء اصطناعياً في ذكاء يتعلّم ويتطور. الاسم نفسه أصبح قديماً… فهذا ذكاء حقيقي بأصل مختلف».

ثم أضافت مقترحاً جريئاً: لماذا لا نكفّ عن وصفه بـ«الاصطناعي»، ونطلق عليه مثلاً اسم «ماكينة الذكاء» أو حتى «ماكينة سيبيان» (Sapien Machine)، في إشارة إلى إنسانيته الجديدة التي تُقارب ذكاء الإنسان العاقل (Homo sapiens) ولكن عبر آلة؟

لحظتها دوّى التصفيق في القاعة، لا للكلمات وحدها، بل للفكرة التي باتت تفرض نفسها عالمياً: أن ما نسميه «اصطناعياً» قد تجاوز الكثير مما نعدّه «طبيعياً».

أسماء جديدة لعصر جديد

لم يعد مصطلح «الذكاء الاصطناعي» قادراً على احتواء حجم التحول الذي نعيشه؛ ولهذا بات من الضروري أن نعيد التفكير في التسمية حتى لا نظل أسرى لفظ يختزل الفكرة أو يُضلل معناها.

في الأوساط العلمية العالمية اليوم، تُطرح مقترحات بديلة أكثر دقة وواقعية:

* الذكاء المعزَّز (Augmented Intelligence): لأنه لا يلغينا، بل يُعزز قدراتنا.

* الذكاء الآلي (Machine Intelligence): توصيف محايد يعكس حقيقة أنه من إنتاج الماكينات.

* الإدراك المركب (Synthetic Cognition): لأن الآلة باتت تُطوّر طريقة إدراكها الخاصة، لا مجرد حسابات.

* الذكاء الحاسبي (Computational Intelligence): مصطلح أكاديمي يستخدم في الجامعات والمختبرات.

* الذكاء التشاركي (Hybrid Intelligence): صورة عن شراكة الإنسان والآلة في إنتاج الفهم.

أما في السياق العربي فربما تكون خيارات، مثل: «الذكاء الآلي»، أو «الذكاء غير البيولوجي»، أو حتى «الذكاء القائم على الخوارزميات»، أكثر تعبيراً عن الواقع من كلمة «اصطناعي» التي تُوحي بالزيف أو التقليد.

السؤال الذي يفرض نفسه إذن: إذا تغيَّر الاسم، هل سيتغيّر فهمنا له… وبالتالي شكل علاقتنا به؟

وفي الختام قال شكسبير: «ما نُسميه وردة… تبقى برائحة الورد ولو غيّرنا اسمها».

لكن الذكاء ليس وردة، بل ثورة… ثورة تُعيد تشكيل الطب والتعليم والفنون… بل اللغة التي نصف بها أنفسنا والعالم.

وقد قال الجاحظ قبل أكثر من ألف عام: «المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي… وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ».

وكأن عبارته تصلح لنا اليوم: فالمعنى (الذكاء) حاضر بيننا، لكن الاسم هو الذي يصوغ فهمنا له ويمنحه وزنه.

لهذا، لم يعد السؤال: هل الذكاء الاصطناعي «اصطناعي» حقّاً؟

بل أصبح أعمق: هل نحن مستعدون لنمنحه اسماً يليق بحقيقته… قبل أن يفرض علينا هو اسمه وصورته؟

  • لندن

Loading

مقالات ذات صلة

Comments (0)

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Show Buttons
Hide Buttons
Translate »