رحيل محمد إبراهيم أبو سنة.. آخر شعراء الواقعية الرومانسية في مصر
غيّب الموت، الأحد، الشاعر المصري محمد إبراهيم أبو سنة، عن عمر يناهز 87 عاما، بعد أن حجز لنفسه مكانا بين الكبار، واستطاع أن يقدم قصيدة متفردة جمعت بين الأصالة والحداثة في بناء فنى وجمالي رائع.
رحل الشاعر الكبير، وكأنه ينعى نفسه لنفسه في قصيدة ” مفتتح “:
” و كأني ما عشت حياتي
لقد حلقت فوقها
كما يحوم طائر فوق غابة تحترق
و ها هو المساء يوشك .. “!
وجاء المساء، وحان موعد رحيل الشاعر بعد رحلة حافلة بالإبداع الشعري والفني والعمل الإذاعي، وتوج مشواره الطويل بجائزة النيل في الآداب للعام الجاري 2024.
محمد إبراهيم أبو سنة من أبرز شعراء جيل الستينيات في مصر، تميزت قصائده بالعمق والابتكار، و تميز شعره بسمات فنية متفردة، واستطاع تطوير هذه السمات على مدى سنوات طويلة أنتج خلالها 12 ديوانا من الشعر ومسرحيتين شعريتين و10 دراسات نقدية.
من دواوينه: “قلبي وغازلة الثوب الأزرق” 1965، “أجراس المساء” 1975، “رماد الألسنة الخضراء” 1985، “شجر الكلام” 1990 “مرايا النهار البعيد” “رقصات نيلية” “تأملات في المدن الحجرية “موسيقى الأحلام” كما كتب مسرحيتي “حصار القلعة” و”حمزة العرب”.
وأبو سنة كان رفقة الراحلين الكبار، فاروق شوشة وأمل دنقل ورجاء النقاش، راعه فراقهم فكتب قصيدة بعنوان “البحر موعدنا”:
البحرُ موعِدُنا
وشاطئُنا العواصف
جازفْ فقد بعُد القريب
ومات من ترجُوه واشتدَّ المُخالف
لن يرحم الموجُ الجبان
ولن ينال الأمنَ خائفْ
القلب تسكنه المواويل الحزينة
والمدائن للصيارف
لم يلبس عباءة أحد
يقول عنه صديقه الشاعر فاروق جويدة: الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة واحد من أبرز شعراء جيل الستينيات.. مجدّد وأصيل ومتفرد، لم يخرج من عباءة أحد، ولد شاعرا كبيرا إحساسا وصدقا، وأخذ مكانته في كوكبة من الشعراء الكبار.. رغم زحام الأشياء وتكدس البشر يبقى الشعر واحة نجِد فيها الأمن والجمال والسكينة.
ويتابع قائلا: أبو سنة شاعر مبدع أخلص للشعر وحافظ على قدسية الأصالة، وتمرد أحيانا بقدر كبير من الحكمة، وكان ومازال وسيبقى شجرة مثمرة عريقة في حدائق الإبداع العربي.. إن أبو سنة الشاعر الرقيق الذى وهب حياته بكل السخاء للكلمة الجميلة والإبداع الراقي والفن الجميل إنسان عاش الحياة كما أحب وكان قيثارة لكل إحساس صادق تجسدت فيه رحلة شاعر من الزمن الجميل.
ويضيف جويدة: كنا نجتمع أنا وفاروق شوشة وأمل دنقل على شاطئ النيل حين كان شامخا جسورا، وتدور الحوارات الساخنة بين أمل دنقل وأبو سنة، وكلاهما صاحب مدرسة متفردة، بينما فاروق شوشة يلقي علينا الكثير من حكمته واتزانه.
شاعر قومي عروبي
وفي لقاء خاص بالجزيرة نت، يقول الشاعر أحمد الشهاوي: اهتم الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة منذ البدايات بالواقع الشعري العربي بشكل عام، فلم تقف كتاباته النقدية عند الشعراء والكتاب المصريين، بل امتد بصره لآخر التخوم العربية في الشعر، وطفق يعدد الشعراء والكتاب العرب في تجاربه النقدية، مثيرا العديد من القضايا الأدبية المهمة التي كانت تجلب عليه غبار المعارك العربية خاصة من جيل السبعينيات.
ويضيف الشهاوي: كتب أبو سنة عن صلاح عبدالصبور وفاروق شوشة وأمل دنقل وعبدالمعطي حجازي، وطوَّف أيضا على الحدود العربية من أدناها لأقصاها، فكتب عن نازك الملائكة، التي يعدها من أفضل شعراء الحركة الشعرية الحديثة وخاصة في ديوانها “قرارة الموجة” والذي كان يحفظه عن ظهر قلب في بداية حياته، وعن نازك الملائكة يقول: هي التي ألهمتني الكتابة بهذا الشكل الجديد في القصيدة الحديثة، قرأتُ ديوانها الذى صدر في نهاية الخمسينيات وحمل عنوان “قرارة الموجة”، وحملت هذا الديوان معي إلى القرية، وكنت أقرؤه بافتتان شديد وأردد قصائده، وربما كانت هذه الشاعرة مدخلي إلى مدرسة الشعر الحديث.
ويضيف الشهاوي: كان أبو سنة أول من التفت إلى شعراء السبعينيات، وعرّف بهم من خلال مجلة “الكاتب” التي كان يرأس تحريرها الشاعر صلاح عبدالصبور، وكتب عنهم في كتابه “دراسات في الشعر العربي”، كما كتب أيضا عن الشاعر اليمني عبد العزيز المقالح ناقدا ديوانه “الخروج من دوائر الساعة السليمانية ” والذي يعبر عن امتداد متطور لهذه الرؤية الفنية التي تميز بها المقالح، حيث تقوم في جوهرها على الانتماء القومي الواضح منطلقا من اهتمامه بالتراث الشعبي اليمني، وقد تجسدت في كثير من دواوينه وعناوينها الدالة “لابد من صنعا ” و”رسائل إلى سيف بن ذي يزن ” و”هوامش يمانية على تغريبة ابن زريق البغدادي ” و”عودة وضاح اليمن”.
فتنة عمر بن أبى ربيعة
وتستمر حفائره النقدية محفزا ومفسرا في جيل الستينيات الذي يمثله محمد عفيفي مطر، أمل دنقل، حسب الشيخ جعفر، ممدوح عدوان، المقالح، محمد عبد الحي، محمد عمران، محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زياد،، فاروق شوشة كمال عمار، بدر توفيق، وملك عبدالعزيز، وفاء وجدي، وغيرهم .
وفي شبابه كان صاحب “تأملات في المدن الحجرية” مولعا بالجمال في الشعر العذري عند جميل بن معمر، مجنون ليلى قيس بن الملوح، كثير بن عبدالرحمن (كثير عزة)، ومع ذلك كان يراهم يكتبون في الإطار التقليدي، ولكنّ هناك شاعرا تميز عنهم بالجرأة والعصرية، هو عمر بن أبى ربيعة الذى صور واقعه الذي عاش فيه، وترك صورة للغة الجديدة التي ابتكرها في قصائده ودواوينه، ففتن به، وكان عمر بن أبى ربيعة أول من استفز شاعرنا للالتفات إلى المرأة في جمالها وفتنتها وقدرتها على الحوار العاطفي مع الرجل .
ونشر محمد إبراهيم أبو سنة قصائده في مجلات “الآداب” ببيروت، و”الكاتب” برئاسة تحرير أحمد حمروش، و”المجلة” برئاسة تحرير الدكتور حسين فوزي، وفي جريدة الأهرام استقبله الشاعر الرائد صلاح عبدالصبور، حيث كان ينوب عن الدكتور لويس عوض خلال سفره، ونشر له قصيدة بعنوان “عندما نكون وحدنا”، في 31 يناير/كانون الثاني 1964، وهو مازال طالبا في السنة الرابعة بكلية اللغة العربية، وكان هذا إنجازا ومَجدا كبيرا في مسيرته الأدبية.
وكتب أبو سنة الكثير من القصائد التي لم يستطع نشرها في الستينيات، ونشرها بعد رحيل الرئيس عبدالناصر في ديوان “حديقة الشتاء”، و ديوان “تأملات في المدن الحجرية”، وهو ديوان كان في غاية الأهمية والخطورة، لجرأته ونقده الشديد، وصدر عن الهيئة العامة للكتاب.
آخر الشعراء العصاميين
ويقول الشاعر فولاذ عبد الله الأنور مقرر النشاط الثقافي “واحة الفكر والفن” في لقاء خاص بالجزيرة نت: تعود معرفتي بالشاعر الكبير محمد إبراهيم أبو سنة إلى أيام دراستي في كلية دار العلوم منذ عام 1974م عندما كنت مسؤولا عن جماعة الشعر بها فكنا نستضيفه في الملتقيات والندوات الثقافية التي كان يثريها بأشعاره ومناقشاته معطيا بذلك النموذج والقدوة لطلاب الجامعة ودارسيها من خلال اتساق الشخصية التي فيه مع الإبداع الذي يستلهمه، ثم زاملته بعد ذلك في العمل الإذاعي مُعدّا للبرامج الثقافية والأدبية، فتأكد لي هٰذا النموذج المتسق في شخصه مع شعره، وقلَّ أن تجد هٰذا الاتساق عند كثير من الشعراء، فهو شخصية حالمة شديد المثالية في عمله شديد التهذب في معاملاته وحياته اليومية، وانعكس ذلك على شعره بكل وضوح، فكتب الشعر بهذه الروح الجميلة، وجنح به إبداعه إلى الرومانسية رغم أن كثيرين يصنفونه ضمن شعراء المدرسة الواقعية التي ازدهرت في ستينيات القرن العشرين، وقدّمتُ الواقعية علىٰ الرومانسية لأن الشاعر كان ينطلق من أرض الواقع معبرا عنه بملامح رومانسية اشتهر بها، إلا أنه في الحقيقة لم يُخضع شعره للواقعية كما هي في المنظور العلمي.
ويكمل فولاذ عبدالله الأنور: رغم انطلاقة مجمل قصائده من أرضية الواقع فإننا نجد اتّكاءَها بقوة على عناصر الخيال الذي ينعكس بجلاء حتى في أحاديثه العادية مع الآخرين فيتحد فيه الشعر مع الشخصية والشخصية مع الشعر فلا تستطيع بينهماٰ تفريقا. أمر آخر يعزز هذا الاتساق ويؤكده وهو ترفعه عن التزاحم على أبواب المؤسسات الثقافية وصانعي القرارات الأدبية معتصما بتاريخه الشعري الطويل الذي ساعدت الإذاعة في تقديمه للمتلقي جنبا إلى جنب مع دواوينه الشعرية المتتابعة.
ويضيف الشاعر فولاذ عبدالله الأنور قائلا: ولعل الوقت قد حان لأن تلتفت مؤسساتنا الثقافية إلى إعادة طبع دواوينه الشعرية التي نفدت تماما من منافذ التوزيع وهذا أقل شيء يمكن أن تقدمه وزارة الثقافة احتفاء بشاعرنا الراحل الكبير.
أبو سنة ناقدا
وفي كتابه “تجارب نقدية وقضايا أدبية ” الصادر عام 1985، يضع أبو سنة أيدينا على حقيقة نقدية مهمة “لقد حاول الرواد البحث عن طريقة أفضل للحرية فعادوا إلى ذواتهم، صلاح عبدالصبور في ” أقول لكم” و”أحلام الفارس القديم”، عبدالوهاب البياتي في “الذي يأتي ولا يأتي”، نازك الملائكة في “شجرة القمر” في محاولة لتجاوز جيل الرواد، ورفض الصيغة الشعرية التي تجعل من الشعر مجرد انعكاس ميكانيكي، أو تصوير فوتوغرافي للواقع . وبعد صدمة 1967 حاول الشعراء استيعاب صدمة الواقع الذي كان قد بدأ في التغير من الأمل إلى الفجيعة بعد الهزيمة .
ويقول عن شعراء الستينيات، ركز جيل الستينيات على استلهام التراث القومي واستخدام الأقنعة لتصوير المفارقات بين الماضي المجيد والحاضر الأليم، وظهر الثراء الفني واضحا نتيجة لتطور المفاهيم الشعرية ونشاط الحركة النقدية والتحول المذهل في الواقع، وعدم الرضا على الذات، والانفتاح على الآداب الأجنبية.
وأبو سنة رغم مروره في الحياة بطول 87 حولا، فإنه لم يكتب سيرته الذاتية كاملة، ولكنه سجل بعضا من سيرته الذاتية في كتاب “أصوات وأصداء”، وفى مقدمة ديوان “تعالي إلى نزهة الربيع”، وبعض مقالات في مجلة “فصول”.. ويعتبر أن شعره هو تجربته الذاتية، ويعتقد أن الشعر يُعد كافيا جدا في الرد على الأسئلة الخاصة بحياته وسيرته الذاتية بإعادة قراءة أشعاره مرة أخرى بصورةٍ كاملةٍ.
نشيد للمقاومة والمهمشين
في النهاية أراد الشاعر أبو سنة أن يؤسس لخريطة شعرية تتطور بتطور الحالة السياسية والاجتماعية للعرب جميعا، ولهذا كان مهموما بما يجري على أرض فلسطين فغنى للمقاومة وأطفال الحجارة الذين أذهلوا العالم، وندد بالاستبداد والفساد.
فكتب إلى أبطال الانتفاضة الفلسطينية قصيدة “وحدنا والمغول ” وهم يكتبون مصيرهم بأحجارهم في مارس/آذار 1988:
“وحدنا والمغول
نتفجر في ذروة المستحيل
نتقابل جسما لقنبلة ..
.. فوق هذى البلاد ..
.. التي سوف تبقى لأطفالنا
سوف تبقى لأحلامنا
وطنًا لا يزول
وحدنا و المغول …”
ولا تسرقه قضايا الأوطان من قضايا الأفراد المهمشين، ويكون شعره واعيا لمصائب هؤلاء الفقراء، ويكتب قصيدته الشهيرة “غريب من قِنا ” 1960 عن عامل بناء مجهول، واحد من هؤلاء الفقراء المهمشين الجياع، الذين يبنون المدن و يسكنون القبور…
” و تسأل سيدة فى الطريق:
و من ذا القتيل؟
و يهمس صوت جليل:
(غريب أتى من قنا)
و يعمل بين رجال البناء
هوت رِجله ثم زلت و حم القضاء … ”
حسرات الجياع ومدهشات العبر
وفي قصيدة “ترفق بنا يا قدر” 2009، يندد بالفساد والاستبداد والظلم الواقع على الأطفال والنساء والظلم الواقع على الإنسان العربي حتى عطّل النظر للغد المنتظر:
“ترفق بنا يا قدر
ترفق.. ترفق
بأغصان هذا الشجر
ترفق بماء المطر
ترفق بأطفالنا
يطلقون بريد النظر
فلا يبصرون الغد المنتظر
ولا يبصرون سوى سيئات النذر
ولا يبصرون على الأرض
غير الخطر
ترفق بهذي البلاد
التي ترتدي ليلها المعتكر
تنام على حسرات الجياع
و تصحو على مدهشات العبر
تنال العقاب
على غير ذنب جنته
و لكنها تعتذر
ترفق بنا يا قدر
ولا تترفق
بمن يكذبون علينا
و من يمرحون
على جسد الوطن المحتضر
ترفق بنا يا قدر.